النساء والشعر: ولادة بنت المستكفي

 

تمتع عدد كبير من النساء على مر التاريخ بمكانة اجتماعية عالية، ونلن ما يبلغهن للمجد، ويجعلهن أكثر شهرة، سواء كان لأغراض سياسية أو لامتلاكهن موهبة كبرى، أو لإبداعهن المتميز، كما يتخطى صفوهن علية المجتمع إلى عامته، مكتسبين بذلك شعبية واسعة، فتتناول المخيلة الشعبية سيرتهن بذهول تارة وانبهار تارة أخرى، ومن هؤلاء أشهر شاعرات العصر الأندلسي وهي:​​ ولادة بنت المستكفي،​​ والتي تعتبر واحدة من أكثر نساء عصرها نبوغًا في الشعر والفنون المختلفة كـ :​​ حُسّانة التميمية​​ وأم العلا، وتبوأت بنت المستكفي مكانة عالية في زمانها ووسط مجتمعها، ونالت قسطًا واسعًا من الشهرة والصيت بسبب ثقافتها وجمالها الفاتن وزينتها البديعة.

 

هي ولادة بنت المسكفي بالله بن محمد عبدالرحمن الأموي، تُنسب لبيت الخلافة، وكانت تخالط وتساجل الشعراء، واشتهرت بأخبارها مع الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس، فلقد هام بها كلاهما ووقعا في غرامها، بينما كانت هي تميل لابن زيدون وتكره الآخر، حتى وقع بينهما ما وقع وقام ابن زيدون بكتابة رسالته التهكمية الشهيرة إلى ابن عبدوس.

 

سنستعرض الآن بعضًا من أشعارها:

 

من أشهر ما قالته:

أنا واللَه أصلح للمعالي

وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها

وَأمكنُ عاشقي من صحن خدّي

وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها

وهذه الأبيات تعتبر من أجرأ ما قالته، ويقال أيضًا أنها قامت بكتابة بيتين من الشعر، وطرزتهما على ثوبها،

إضافة لذلك فقد تنوعت أشعار ولادة بنت المستكفي ما بيت عتاب وهجر وفراق إلى قصائد حزينة وأخرى في الهجاء وسنعرض منها:

 

 

 

 

  • ​​ قصيدة ​​ ألا هل لنا من بعد هذا التفرق​​ عن الفراق وقالت فيها:

أَلا هَل لنا من بعد هذا التفرّق  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ سبيلٌ فيشكو كلّ صبّ بما لقي

وَقد كنت أوقات التزاورِ في الشتا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أبيتُ على جمرٍ من الشوق محرقِ

فَكيفَ وقد أمسيت في حال قطعة  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ لَقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي

 

فتتسائل في بداية الأبيات عما إذا كُتب لهم اللُقيا مرة أخرى، ويشتكي كلا منهما للآخر عما لاقى، ثم تعود بذاكرتها إلى عندما كانا يتقابلان في الشتاء، كانت تبيت قبلها على أحر من الجمر لشدة شوقها رغم أنها تعرف أنهما سيتقابلان، ثم تقول بنبرة من الحزن عن كيف أصبح حالها بعد أن أصبحت لا تلقاه أبدًا.

 

  • ​​ قصيدة​​ لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا​​ في العتاب وقالت فيها:

 

لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا

لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ

وَتركتَ غصناً مثمراً بجماله

وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ

ولقد علمت بأنّني بدر السما

لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري

 

وقد نظمت هذه الأبيات معاتبة ابن زيدون على حبه لجاريتها، تاركا إياها وهي ذات الدلال والجمال والحسب والنسب، فغارت كثيرًا، وتقول في الأبيات أنه لو كان منصفا حقًا في حبه لها ما كان نظر لغيرها وتركها، ما كان حط من قدرها بحبه جاريتها، فهي تشبه نفسها بالغصن اليافع المثمر بينما جاريتها كالغصن الذابل فكيف لها أن يتركها ويذهب للأخرى! ثم تشبه نفسها مرة أخرى بالبدر في تمام جماله، وأنه الذي اجتمع الجميع على جماله وروعته ولكنه رغم هذا ترك ذلك البدر ليذهب لمن لا جمال له من الكواكب (حيث شبهت الجارية التي أ؛بها ابن زيدون بكوكب المشترى وهذا التشبيه يدل على ثقافتها ومعرفتها بالكثير بالنسة لعصرها).

 

  • ​​ قصيدة​​ ​​ إن ابن زيدون على فضلها​​ في عتاب ابن زيدون وقالت فيها:

إنّ اِبن زيدون على فضلهِ

يغتابني ظلماً ولا ذنب لي

يلحظُني شزراً إذا جئته

كأنّني جئت لأخصي علي

 

 

وتظهر هذه الأبيات غضبها من غيبة ابن زيدون لها، وكلامه عنها رغم أنه من المفترض أن ينأى بمنزلته عن اللغط والحديث عنها، فكل ما يقوله فيها هو ظلمًا لها وهي بريئة من كل ذنب ينسبه إليها، ثم تصف نظراته لها عندما تلتقي العيون فتقول أنه إذا ما لاحظها فسرعان ما ينظر لها بضيق وحنق شديدين، ونظرات لا تسطيع تحملها.

 

يقُول المقري في كتابه​​ نفح الطيب:​​ 

“كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والشعر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غُرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب”

 

لنعود إلى شعرها مرة أخرى…

كما أوضحنا أنها ولعت بحب ابن زيدون فأصبح ملهمها في مظم القصائد التي نظمتها، فبعد أول لقاء بينهما، نظمت ولادة بيتين من جميل وعذب الشعر فتقول:

في أول لقاء لها معه، بعثت إليه ببيتين من الشعر الجميل تحدد له في أولهما موعداً للقاء ليلاً، لأن الليل أكتم للسر، وفي ثانيهما توضح له ما تعانيه وتكابده بسبب حبه… إذ تقول​​ [7]​​ :

ترقب إذا جـنّ الظلام زيارتـي … فإنـي رأيت الليل أكتـم للسـرّ

وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا … وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسـر

فنجد أنها في البيت الأول تحدد له موعدًا للقائهما الثاني، وهو الليل فالليل هو كاتم الأسرار ولا يمكن أن يفتضح أمرهما ليلًا؛ ثم في البيت الثاني توضح له ما تكابده وتعانيه بسبب عشقها له، ومما يبدو لنا أن شعر ولادة بنت المستكفي الغزلي كان روحيًا عاطفيًا، وفي الوقت ذاته كان جسديًا مما يعكس تحررها من تقاليد الأندلس ومن تعاليم الدين الإسلامي، وهذا جعل بعض النقاد يتهمونها بالانحلال الأخلاقي.

 

 

وبعد بلوغها الثمانين ماتت ولادة بنت المستكفي دون أن تتزوج، وقد قال فيها أحد المستشرقين الذي يدعى هنري بيريس:​​ “إنّ ولاّدة بنت المستكفي تشكّل استثناءً وقُدوةً لنساء جيلها في الأندلس.

 

إلى هنا ينتهي كلامنا عن شاعرة المغرب الأندلسي.

بقلم\ هدير أشرف