جرير

هرمٌ من أهرامات شعر النقائض في العصر الأموي ،​​ يتوارى عن أنظاره كل من لا يستطيع مجاراة​​ أبياته الحادة ،​​ رُغم أنه برعَ في المديح لكنه تميز بالهجاء​​ ،​​ اقترن ذكره بالفرزدق و الأخطل فمن هو جرير​​ ثالث​​ كبار شعر النقائض في ذاك العصر ؟ .

اسمه و نسبه :

هو أبو حزرة جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن إد بن طح​​ بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الكلبي اليربوعي​​ التميمي .

و تعود تسميته بهذا الاسم هو أنَّ والدة الشاعر جرير عندما كانت حاملاً ​​ به رأت في حلمها بأنها ولدت طفلها​​ ( جريراً ) ؛​​ أي حبلًا يلتف حول أعناق​​ العديد​​ من الرجال​​ فيقوم بخنقهم​​ وأنّ هذا الحبل له​​ شعراً أسود اللون.

قامتْ أمُّه​​ بزيارات​​ إلى عدد من​​ منجمي و مفسري​​ الأحلام وتمَّ الإجماع بأنَّها ستَلِد​​ طفلاً​​ وسيكون شاعِرًا​​ قديراً​​ ،​​ سليط اللّسان​​ يذبح​​ النَّاس بلسانِه ومن هنا جاء اسم جرير​​ ،​​ و​​ وُلِد جرير وتميّز بشعره الجميل​​ و عُرِف​​ في اللون الهجائي .

ملخص من حياة جرير :

وُلد عام​​ ٣٣ للهجرة​​ /​​ ٦٥٣ ميلادي في​​ نجد ، و عاش​​ حياته يُناضل و يساجل شعراء عصره ، فلم يقدر على مواجهته و لم يثبت أمامه إلا الفرزدق و الأخطل​​ ، كان شاعراً عفيفاً​​ ، و غزلياً جيداً​​ ،​​ ​​ مدح بني أمية​​ ، و لازم الحجاج فترةً ليست بقليلة .

رغم فقر والده الشديد إلا أن نسبه​​ كان كريماً ​​ ، فكان جده​​ حذيفة بن بدر الملقب بالخطفي يملك قطيعاً كبيراً من الإبل و الغنم و كان ينظم الشعر​​ .

عاش شاعرنا جرير في نجد مسقط رأسه ، وتعلم الشعر على لسان جده حذيفة بن بدر​​ ،​​ عاصر​​ الأمويين​​ حيث كثُرت في هذا العصر الأحزاب و القوى​​ و كان لكل​​ حزبٍ​​ أو قبيلة شاعرٌ ناطقٌ باسمهم ؛ فكان على جرير​​ أن​​ يمدح​​ شرف و كرامة قبيلته​​ ،​​ ​​ حتى قيل أنه هجا ٨٨ شاعراً في عصره و لم يثبت أمامه إلا شاعرين فقط هما الأخطل و الفرزدق .

توفي عام ١١٠ للهجرة / ٧٢٨ ميلادي .

ملخص من حياة جرير الأدبية​​ :

جمع الشاعر​​ جرير​​ بين كلماته مميزات كثيرة​​ جعلت من شعره أحد مفاتيح​​ أبواب أدب العصر الأموي ، و​​ كان​​ أهمها​​ ما يأتي:

رقة​​ أقواله ، و​​ حُسْن​​ ديباجته .

​​ العفة في الغزل حيث يُعدّ جرير من​​ أفضل الشعراء​​ في غرض​​ الغزل في ذلك العصر​​ .

التطوّر وعدم الانسياق وراء​​ التقاليد​​ والمعتقدات الأدبية السائدة آنذاك​​ ،​​ حيث تمكّن​​ من كسر و​​ تحطيم​​ حواجز الاعتقاد في بيئته​​ وعصره ،​​ والمتمثلة باعتبار بكاء الزوج على زوجته​​ عيب و سبب للسخرية من رجولته​​ ، حيث قام برثاء زوجته​​ خالدة​​ بأبيات أظهرت حزنه ، و شوقه لها .

العفة في الحياة فلم يشرب الخمر​​ غير العديد من الشعراء​​ في ذلك الوقت ،​​ و لم​​ يحضر مجالس​​ القيان .

التظاهر بالتدين والتعصب للدين​​ الإسلاميّ .

الأنفة والعزة​​ ، فلم يسمح​​ بالظلم​​ ، و لم يقبل مجاراة الظالمين .

كما نضيف أن​​ جرير​​ شاعر​​ وجداني .

  لقد تبادل جرير و الفرزدق​​ الهجاء لأكثر من أربعين​​ عام​​ ، وكان كثير​​ من الشعراء​​ يفضلون​​ شاعراً على​​ غيره​​ ، وهذا ما حدث للراعي النميري حيث​​ فضل الفرزدق على حساب جرير حيث قال:

يا صاحبي دنا الرواح فسيرا

 

غلب الفرزدق في الهجاء جريرا

فلم​​ يعطِه​​ جرير​​ الكثير من الوقت ،​​ بل​​ جهز​​ له في اليوم التالي قصيدة​​ تتألف​​ من 97 بيتاً من الشعر​​ ،​​ فجاء​​ سوق المربد بعد أن احتل الناس مراكزهم وأسرج ناقته عند مجلس الفرزدق . و الراعي النميري وألقى​​ 

من أشهر قصائد جرير :

يا​​ أَيُّها​​ الرَجُلُ​​ المُرخي​​ عِمامَتَهُ

هَذا​​ زَمانُكَ​​ إِنّي​​ قَد​​ مَضى​​ زَمَني

أَبلِغ​​ خَليفَتَنا​​ إِن​​ كُنتَ​​ لاقِيَهُ

أَنّي​​ لَدى​​ البابِ​​ كَالمَصفودِ​​ في​​ قَرَنِ

لا​​ تَنسَ​​ حاجَتَنا​​ لاقَيتَ​​ مَغفِرَةً

قَد​​ طالَ​​ مُكثِيَ​​ عَن​​ أَهلي​​ وَعَن​​ وَطَني

شرح الأبيات :

يُروى​​ أن الخليفة عمر بن عبد العزيز​​ عندما​​ تولى الخلافة​​ في ذلك العصر​​ ،​​ أتى​​ إليه وفدٌ من​​ الشعراء من كل​​ مكان و قبيلة​​ حينها ،​​ و وقفوا​​ أمام بابه​​ أياماً عدة​​ لم يسمح​​ فيها لهم​​ الخليفة بالدخول​​ ، فجاء ( رجاء بن حيوة ) و كان من خطباء أهل​​ الشام​​ حينها​​ ليدخل​​ إلى بلاط​​ الخليفة​​ ، فلما رآه جرير​​ داخلاً​​ على​​ الخليفة​​ عمر ، قال له​​ تلك الأبيات ، معبراً عن أنه وقت​​ ( رجاء بن حيوة ) و انتهى وقتُ جرير ، أن يُخبِر الخليفة​​ إن قابله أن جرير ينتظر أمام بابه منذ وقتٍ ​​ طويل ،​​ قد فارق عائلته​​ و قبيلته و​​ دياره ليأتي للخليفة​​ و يقوم بالطلب​​ منه​​ باستخدام​​ أسلوب​​ النهي ،​​ أن لا ينسى حاجة الشاعر​​ و طلبه​​ ،​​ و نلاحظ​​ أنّ الشاعر​​ يستخدم​​ أسلوب النهي في غير معناه​​ الأساسي​​ ، بل في​​ معنى آخر ( معناه​​ البلاغي​​ )​​ الذي يفيد الدعاء​​ ،​​ فقام الشاعر​​ بجعل​​ المخاطب أعلى منه​​ منزلة ،​​ كما نرى​​ أنّ الشاعر​​ يُقرن​​ طلبه للمخاطب​​ بهدية أو جائزة​​ ، وهي أن يلقى غفرانًا من​​ المولى سبحانه و تعالي​​ ،​​ فمثل أن​​ الشاعر يجعل طلبه​​ هديةً​​ تستحق الجزاء من الله​​ ، فهو بذلك​​ يقوم بالاشارة​​ إشارةً​​ خفيّة إلى أنّه​​ غير قوي​​ ، والضعيف لا يجزي بل اللهُ يجزي​​ عنه ،​​ وفي ذلك​​ تقوية العمق​​ ​​ لحالة الشاعر​​ الحزينة​​ ، والتي لا​​ تحتمل​​ تأجيلاً عن مقابلة​​ و لقاء الخليفة​​ ، فحالته​​ ليست بسهولة ،​​ و بحاجة​​ إلى حل​​ .

جرير صاحب النغمة الموسيقية​​ المميزة في أبياته ، و الصور الفنية التي ارتبطت بمسكنه (البادية) ​​ ارتباطاً وثيقاً​​ و أغنت أشعاره​​ ،​​ ترك خلفه مزيجاً غنياً من الشعر بين الهجاء و الرجاء و المديح​​ ، جعل ذكره سائداً​​ إلى يومنا هذا​​ ، بين سطورنا ممتلئين بأمل وجود شعراء​​ يكتبون أبياتا تُلتمس القلوب ، و لا تُساند الحقوق .

إعداد و تحرير : أريج غانم .