المعتمد بن عبَّاد

 

المعتمد بن عبَّاد' هو ثالث وآخر ملوك بني عبَّاد على إشبيلية؛ خلف والده في حكم مدينة إشبيلية بالأندلس، ثم وسَّع ملكه ليَضمَّ إليه قرطبة وبلنسية ومرسية ومدناً أخرى كثيرة فأصبح أقوى ملوك الطوائف على الإطلاق. قوي نفوذ مملكة قشتالة المسيحية في عهده حتى باتت تهدد ملكه، فلجأ إلى استدعاء المرابطين، وخاض معهم معركة الزلاقة ضد قشتالة، إلا إنَّ أمير المرابطين يوسف بن تاشفين انقلب عليه، فهاجم دولته وقضى عليها عام 484 هـ (1091م)، ونفي المعتمد بعد ذلك إلى مدينة أغمات في المغرب، حيث قضى أربع سنواتٍ سجيناً.

​​ اشتهر المعتمد بن عبّاد ببراعته الفذة ​​ في الشعر بشكل خاص والأدب بشكل عام؛ لننتقل إلى أدبه وشعره فالكلام عن حياته السياسية يطول…

كان الغزل أهم الأغراض الشعرية التي استخدمها العتمد بن عباد، عندما كان في عهده من الملك والسلطة والإمارة، ​​ وكان غزلاً حقيقيًا تحدث فيه عن مشاعره وعواطفه في حالتي الرضا والسخط أو الغضب، ولم يقتصر شعره الغزلي على امرأة واحدة فقط، بل تعدى بغزله على جواريه وزوجاته الأخريات وإن اشتُهرت منهن اعتماد الرميكية أم الربيع، لكن في شعره عرفنا جوهرة وسحْر ووداد وقمر.

يقول في​​ وداد:

أشربُ الكأسَ في وداد ودادك *** وتأنس بذكرها في انفرادك

قمرٌ غاب عن جفونك *** مرآهُ وسُكناه في سواد فؤادك!

 ​​ ​​ ​​​​ 

ويقول متغزلا في​​ اعتماد الرُّميكية أم ابنه الربيع:

تظنُّ بنا أم الربيع سآمة *** ألا غفر الرحمنُ ذنبًا تُواقعُه

أأهجُر ظبيًا في فؤادي كناسُه *** وبدرَ تمام جفوني مطالعه

وروضةَ حُسن أجتنيها وباردًا *** من الظلم لم تخطر علي شرائعه

يظهر لنا من غزله ذاك أنه كان مغرمًا ومفتونًا بالجمال أينما حلَّ، ويذهب أغل الظن إلى أن من تمكن من قلبه هن جواريه وحظاياه وكنَّ قريبات منه دائمًا، لذلك لا تجد في شعره أي نوع من اللوعة أو الحرمان، فهجر​​ الجواري دلال ينتهي بوصل، وخصام لا يلبث الصلح أن يعقبه، والفراق إذا كان اليوم فغدًا اللقيا والوصال، وكثيرا ما صور في شعره مداعبات جرت بينه وبين من يهوى، ولعل من أرقّها تلك التي صوّرها وقد جرى بينه وبين جاريته​​ جوهرة عتاب، فكتب إليها يسترضيها فأجابتها برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:

لم تَصْفُ لي بعدُ، وإلا فلم *** أرى في عنوانها جوهرة

دَرَت بأني عاشق لاسمها *** فلم ترد للغيظ أن تذكره

قالت: إذا أُبصِره ثانيا *** قبِّله، والله لا أبصره

يُروى أنه عندما خُلِع المعتمد ونفاه يوسف بن تاشفين إلى العدوة، فوصل إلى موضع منها وأهل البلد خارجون للاستسقاء، أنشد قائلا:

خرجوا ليستسقوا فقلتُ إليهمُ … دَمعي ينوبُ لكم عن الأنواءِ

قالوا حقيقٌ في دموعك مقنع … لكنها ممزوجةٌ بدماء

 

أما في المدح فقد كتب ابن عبَّاد مادحًا نفسه فقال:

لَقَد بَسَطَ اللَهُ المَكارِمَ مِن كَفّي * * * فَلَستُ عَلى العلاّت مِنها أَخا كَفِّ

تُنادي بُيوتُ المالِ مِن فرطِ بَذلِها * * * يمينيَ قَد أَصرَفتِ ظالِمتي كُفّي

أَتُغري يَميني بِالسَماحِ فَتَنهَمي * * * وَلا تَرتَضي خِلّا يَقولُ لَها يَكفي

لَعَمرُكَ ما الإِسرافُ في طَبيعَةٍ * * * وَلَكِنَّ طَبعَ البُخلِ عِنديَ كالحَتفِ

يقول فيه هذه الأبيات أنه أهلا للكرم وكان دائما شخصا كثير الكرم والبذخ، وانه ليس مسرفًا ولكن هي طبيعته هكذا كثير البذخ والعطاء والبخل كالموت عنده؛ أي أنه يوم يبخل كأنه يوم موته.

حاول ابن عباد أن يجعل حياته كلها قصيدة من قصائد الشعر المترف، وأن يجعل بلاطه موئل الشعراء، وقد انضم إليه شعراء الأندلس وأفريقية وصقلية، كما أنه ألف الكثير من الأشعار، كما جمع له شاعره ابن اللبانة كتاباً من شعره باسم​​ سقيط الدرر ولقيط الزهر.

قال أثناء أسره في أغمات عندما رأى بناته بثيابٍ رثة، ليست كما اعتادوا في العيد:

فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فسائك العيد في أغمات مأسوراً

ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن ‏ للناس ما يملكن قطميراً

برزن نحوك للتسليم خاشعةً أبصارهنَّ‏ حسيرات مكاسيراً

يطأن في الطين والأقدام حافيةً كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً

أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه فعاد فطرك للأكباد تفطيراً

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردّك الدهر منهياً ومأموراً

من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به فإنَّما بات في الأحلام مغروراً

يقول في الأبيات أنه في عهده السابق كان دائم الفرح والسرور بالعيد، ولكن هذا العيد هو أسير منفي، يصعب عليه رؤية بناته الغاليات وهن جائعات وشاحبات اللون، ويتحسر لرؤية الانكسار في عيونهن، فهؤلاء الأميرات يمشين حافيات الأقدام بعد أن كانت هذه الأقدام تمشي منعمة على المسك والكافور، ويوضح أن رؤيته لبناته بهذا الشكل قد فُطر لها قلبه وروحه، ثم يختم الأبيات متحرًا على حاله وما وصل إليه هو وأهله بعد أن كانوا مترفين ولا مثيل لهم في الملك والجاه والسلطان.

وهكذا نرى في سيرة المعتمد بن عباد حياة اللهو والترف والمؤامرات والعودة إلى الجادة، تلك الحياة التي اتسم بها عصر ملوك الطوائف الذين رأوا سقوط جزء كبير من شمال ووسط الأندلس وقاعدته طليطلة في أيدي القشتاليين ولم يحركوا ساكنا، في واحدة من أخطر الهزائم في تاريخ الأندلس، بل لم يقف هؤلاء عند هذا الحد، فرغم هزيمة القشتاليين في الزلاقة بفضل قوة المرابطين، عادوا مرة أخرى للتحالف السري مع العدو القشتالي للحد من قوة المرابطين وطردهم من الأندلس بالكلية، وهكذا تعلمنا من سيرة المعتمد بن عباد أن سياسة اللعب على الحبال مآلها الهزيمة المفجعة.