الشعر في عصر صدر الإسلام

اتصل العرب بعد العصر الجاهلي بالثقافات اليونانية والرومانية والفارسية وكان لهذا الاتصال​​ آثار إيجابية واضحة الأثر على كافة الميادين​​ وجميع المجالات، حتى​​ ظهرت هذه الآثار​​ على الشعر العربي، وكانت بوادر هذا التأثير مع بداية عصر صدر الإسلام.

التجديد في شعر عصر صدر الإسلام

انتقلت مظاهر​​ حضارة اليونان والفرس والإنجليز والروم إلى الجزيرة العربية​​ أيام العصر الجاهلي وانتشار الأشعار والاتجار بها والكسب منها​​ فكان العرب يأخذون من هؤلاء الشعوب الكثير والكثير من العلوم والمعارف الغريبة التي لا يعرفونها،​​ وأغلب هذه الخبرات أخذوها​​ من نسق القصائد والشعر إلى أن أخذ الشعر العربي طريقه بالتجديد،​​ فما كان للشعراء العرب أن يصفوا الخمر​​ ومجالس شربه لولا اتصالهم بالحضارات والثقافات الغربية،​​ لكننا لم نتمكن​​ من تحديد التاريخ الدقيق لوصول هذه الثقافات إلى بلاد العرب؛ بسبب​​ إقبالهم المتقطع غير المنتظم​​ عليها إضافة إلى وصولها بشكل​​ تدريجي.

​​ وبعد ذلك ظهرت رسالة الإسلام وبدأت الدعوة الإسلامية​​ وكان لابد حينها من ظهور نمط جديد​​ ومعايير جديدة مغايرة مختلفة عما سلف، فكيف أثر هذا التجديد على الشعر العربي؟!

عندما رفض مشركو قريش الدخول في دين الإسلام أخذوا طريقهم في هجاء المسلمين والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك الصحابة،​​ وبعدها​​ بدأ المسلمون بالرد عليهم بأشعار هجاء​​ تنسل النبي محمد من نسب قريش السوداوي،​​ فكان هذا النوع من الهجاء طريقا جديدا​​ لم يألفه العرب من قبل،​​ ربما لم يكن تجديدا في عمق سحيق لكنه لامس تغييرا ملحوظا​​ في شعر عصر صدر الإسلام،​​ فنذكر على سبيل المثال اختلاف الشعراء في موضوعات الشعر، حيث كانوا​​ في العصر الجاهلي يختلفون ويتخاصمون بسبب الثأر وخلافات القبائل، أما في العصر​​ الإسلامي الذي لامسه التجديد كانت الخلافات من نوع جديد كاختلافهم على​​ الدين واختلافهم في​​ الرأي إضافة إلى الفكر،​​ وكذلك فيما يتعلق​​ بالظّلام​​ والنور​​ أيضا،​​ والهدى والضلال،​​ والإيمان والكفر​​ والضلال،​​ إضافة إلى​​ الخروج من​​ الحياة​​ الجاهلية إلى حياة جديدة أو​​ الرسوخ​​ في​​ تلك العادات والتقاليد​​ الجاهلية​​ والحياة​​ القديمة.

وجميع هذه الدلائل​​ تشير إلى كون​​ العرب قد عرفوا​​ أمر جديد يخص​​ التجديد​​ خلال​​ ظهور​​ الدين​​ الإسلامي​​ وعندما​​ كان​​ النبي محمد صلى الله عليه وسلم ينشر دعوته​​ في أرجاء​​ الجزيرة العربية، ولكن هذا التجديد كان​​ مفاجئا​​ ولم​​ يستغرق وقتا طويلا، فلم​​ نجده يدخل في أعماق النفس العربية،​​ كما أنه لم يطل الضمائر،​​ واقتصر تأثيره على​​ فئة​​ قليلة من​​ طائفة​​ الشعراء الذين كان​​ عدد منهم​​ يدافع​​ عن الدين​​ الإسلامي​​ الجديد​​ وعدد آخر​​ يهاجم​​ ذاك​​ الدين​​ الإسلامي​​ الجديد،​​ وأهم ما يتوجب علينا ذكره هو​​ أن هذا التجديد​​ كان بمثابة إشارة​​ إلى​​ أن العرب​​ وللمرة​​ الأولى​​ قد​​ اتخذوا خصامهم​​ حول شيء​​ جديد​​ لم​​ يملكوا معرفة سابقة فيه، فلم يكن خصامهم حول​​ الدين​​ المسيحي​​ أو​​ حول​​ الدين​​ اليهودي​​ عندما​​ أخذ هذا​​ الدين أو​​ ذاك طريقه في الانتشار​​ في​​ أرجاء​​ الجزيرة العربية، وإنما اختصموا حول هذا​​ الدين الإسلامي​​ الجديد الذي​​ جاء​​ به​​ إليهم​​ رجل عربي​​ إضافة إلى أنه​​ منهم، فكانت حالات الخصام بينهم هذه​​ جديدة​​ على أعمق​​ معاني الكلمة وأدق​​ تعابير اللفظ.

وفيما بعد انتقل​​ العرب وخرجوا​​ عن حدود الجزيرة العربية، فأخذوا معهم عهد نشر ذاك الدين وتلك الحضارة وحملوه على عاتق المسؤولية​​ حتى ساقهم السبيل إلى بلاد فارس التي حطوا فيها رحالهم​​ إضافة إلى الدولة البيزنطية، فشاءت الأقدار أن تستقر بهم في هذه البلاد،​​ وأن تسمح لهم باتخاذ التجديد كخطوة مركزية​​ ولاسيما فيما يتعلق بحياة الأدب​​ العربي​​ والشعر​​ العربي​​ وشعراء الأمة العربية،​​ لكن هذا التجديد لم يطرأ في فترة قليلة بل أخذ طريقا طويلا ومدد زمنية مديدة،​​ حتى بانت الآثار والنتائج بشكل جلي واضح،​​ وأبلغ هذه التأثيرات كانت تلمس الشعر العربي.

ولابد من التوضيح أن هذا التجديد لم يصب في​​ أحداث ومجريات أيام العرب​​ الذين يعيشون​​ في بلاد الغرب وإنما صب التجديد في أودية العرب داخل البلاد العربية عامة والحجاز خاصة،​​ فوجدنا التجديد في أشعار العرب التي سكنت الجزيرة العربية ونجد، فيتساءل سائل عن كيفية حدوث هذا التجديد داخل الجزيرة العربية​​ دون حدوثه في البلاد التي توجه إليها العرب رغم أنهم سافروا إليها أما العرب في جزيرتهم فظلوا ثابتين​​ متمسكين بأرضهم؟!

السبب الكامن وراء​​ انتشار الحضارات الأجنبية والرومانية واليابانية​​ والفارسية​​ داخل أراضي الجزيرة العربية هو قدوم هؤلاء الشعوب محملين بحضارات وثقافات مختلفة، فكان العرب حريصين على الاستفادة من تلك الحضارات والتعلم منها مع المزيد من​​ ترسيخها وتطويرها،​​ ونتيجة لذلك​​ انقسم​​ الشعب إلى​​ فئة​​ غنية​​ فئة​​ فقيرة، وما كان من​​ الشعراء​​ إلا أن ينقسموا​​ إلى طبقتين؛ طبقة الشعراء الأغنياء وطبقة الشعراء الفقراء، فما​​ الفرق بين هاتين الطبقتين؟!

إن الفرق بين تلك الطبقات يكون واضحا جليا للجميع، حيث​​ كان الشعراء الأغنياء ينظمون قصائدهم في اللهو والجنون والعبث​​ والمجون​​ والخمر وغيرها،​​ وقصائدهم​​ التي​​ كانت​​ تدور​​ حول غرض الغزل​​ كانت مميزة تحمل طابعا جديدا،​​ لكنهم كانوا يتحفظون بتلك القصائد ويكتبونها في السر حفاظا على مكانة الدين​​ ورسالة الإسلام،​​ فأطلقوا على هذا النوع من التجديد اسم " تجديد المترفين ".​​ 

​​ أما الفئة الثانية من الشعراء فهي​​ فئة​​ الشعراء الفقراء البائسين​​ حيث​​ عملت​​ هذه الفئة​​ على التجديد وكانوا شعراء فقراء​​ يلازمهم الحزن والأسى،​​ فإذا كتبوا قصائد غزلية يكون غزلهم​​ عذريا،​​ وهذا النوع من التجديد​​ يعرف باسم​​ تجديد الفقراء والبائسين في الشعر.

فكان ذلك​​ هو أول نوع من التجديد​​ الذي​​ دخل في معارف​​ المسلمين​​ ويمكن لأي دارس​​ الآن أن​​ يدرس​​ هذا التجديد​​ ويتحقق منه ويصل إلى أعماق​​ وبواطن​​ ذاك الشعر​​ الذي​​ دخلت فيه يد الدين الإسلامي ومعانيه وأسلوبه،​​ إلى الحد الذي جعل​​ قصائد المدح التي ينظمها الشعراء تمدح النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا انبروا​​ لشعر الغزل يتغزلون بهداية النبي الكريم ورسالته الحقة، وفي حال لجوئهم إلى غرض الحماسة نجدهم يصفون معارك الإسلام وانتصار المسلمين وخسارة أهل الشرك والكافرين،​​ وأما عن الهجاء فلم يعد موجها لأصحاب الثأر وإنما لجميع الكافرين الذي يعادون الرسول الكريم ويؤذون الدين القويم​​ ويخربون عقول الأمم والمهتدين.

ونتوصل في الختام إلى أهم​​ حركة تجديد شهدها تاريخ الأمة العربية، حركة تجديد الشعر خلال فترة زمنية مميزة ومثالية​​ وكانت خلال عصر صدر الإسلام.