عودًا حميدًا، لنستكمل معكم ما قد بدأناه في شعر الجهبذ ابن حزم الأندلسي، في المقال السابق استفضنا من بلاغة ابن حزم في شعر الغزل وفي مقالنا هذا سنتناقش حول غرض شعري آخر وهو شعر الطبيعة حيث أبدع ابن حزم في وصف الطبيعة الخلابة ويظهر ذلك في واحدًا من أجمل أشعاره في وصف طبيعة بلاد الأندلس، والذي كان قد نظمه بعد تنزهه مع إخوانه في أحد البساتين فوصف ذاك البستان وما به من مظاهر طبيعية خلابة فقال:

 

ولما تروجنا بأكناف روضــــــــــــة  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ مهدلة الأفنان في تربها النـــــدي

وقد ضحكت أنوارها وتضوعــــــت  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أساورها في ظل فيء ممــــــــــدد

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وأبدت لنا الأطيار حسن صريفهـــا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فمن بين شاك شجره ومغـــــــرد

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وللماء فيما بيننا متصـــــــــــــرف  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وللعين مرتاد، هناك ولليــــــــد

واستكمالًا لهذا السياق يمكن أن تندرج أبيات شعره التي نظمها واصفًا الليل طويل الظلام، ووقوف النجم في حيرة بمنتصف السماء فلا هو بالذي يمضي ولا هو بالذي يغيب، كأنه ارتكب خطأ جلل فتملكه الخوف أو كأنه مترقبًا لموعدٍ ما أو ربما أنه عاشق، فقال ابن حزم:

أقول والليل قد أرخى أجلتــــــــه  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وقد تأنى بألا ينقضي فوفـــــــــا

والنجم قد حار في أفق السماء فمــا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ يمضي ولا هو للتغوير منصرفــــــا

تخاله مخطئا أو خائفا وجــــــــلا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أو راقبا موعدا أو عاشقا دنفــــــا

وهذه التشبيهات المتتالية في البيت الشعري الواحد وذلك التشخيص للنجم كأحد مظاهر الطبيعة، لا تصدر إلا من عملاق في البلاغة ومبدع في الأدب لا يليق بها إلا أن تصدر من ابن حزم.

 

 

أشعار ابن حزم في الحنين:

فيما يخص أشعار ابن حزم في الحنين إلى الماضي، إلى الأهل والأحبة الذين فارقوه وافترقوا عنه، حنينه إلى الصحبة الطيبة والألفة التي استوحشها القلب، فلقد دعى ابن حزم لهذه الأيام -التي شبهها بزهرة النيلوفر في عبق نشرها- بالسقي فقال:

سقى الله أياما مضت ولياليـــــــا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ تحاكي لنا النيلوفر الغض في النشر

فأوراقه الأيام حسنا وبهجـــــــة  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وأوسطه الليل المقصر للعمـــــــــــر

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ لهونا بها في غمرة وتآلــــــــــف  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ تمر فلا تدري وتأتي فلا تــــــدري

​​ ففي أول بيت نجد أن تشبيه الأيام والليالي بزهرة النيلوفر هو تشبيه أندلسي أصيل، كاشفًا عن مدى تعمق الطبيعة في صدور شعراء الأندلس، وظهر ذلك جليًا وبوجه خاص في الإحساس العميق لابن حزم بطبيعة بلاد الأندلس وتأثره بها فقد شبه الليل الذي يقصر العمر بقلب (وسط) النيلوفر وذلك نسبة إلى لونها الداكن الذي يتناسب مع ظلام الليل، فالماضي بما في من ذكريات يتسم بالإشراق والحيوية كالزهرة في خضارها وينوعتها، بينما الحاضر داكن ومظلم ويدعو للإكتئاب.

هل توقفت بلاغة وتألق ابن حزم هنا؟ بالطبع لا فالآن سنرى ​​ واحدة من أجمل قصائده في الحنين، وهي قصيدته السينية (التي نسج ابن الأبار سينية أخرى تنظر إليها) التي يشتاق ويحن فيها إلى معاهد الذكريات حيثما غفارة العيش، واجتماع الأحبة، التي أصبحت أطلال تبكي فراق من غادرها فيقول ابن حزم:

 

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أجل هو ربع قد عفته الروامـــــس  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فهل أنت ويب غيرك حابــــس

لقل له أن تحبس العيس ساعـــــة  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ عليه فتبكيك الرسوم الطوامـــس

في هذه الأبيات يستوقف ابن حزم الركب على ما جرته العادة من شعراء الأطلال حتى يسألها عن حال الدهر معها وماذا فعل بها، كي يأخذ العبرة من الزمان المتقلب والأيام المتحولة غير الثابتة على حال، هكذا يعوج ابن حزم بناقته على الأطلال، يبكي عليها ويذرف دموعه على ماضيه هناك، لقد كانت​​ حياته بها موفقة -لو دامت- ولكن هيهات هيهات، فالزمن لا يرحم أحد ويأتي على الجميع، فهنا يخاطب ابن حزم الربع قائلًا:

فعجب عليه ناقتي وهو سبســـب سقته وجادته الغمام الرواجـــــس

فقلت ودمعي ساكب متحــــــــدر وإنسان عيني في هواميه غامـــــس

لقد كان عيشي فيك-لو دام-موفقا ولكن أبت ذاك الحظوظ الأباخــس

ليالي من أهواه يمسي كأنــــــــــه من العفر ظبي بالصريمة كانــــــس

وإذ شملنا باق جميع محســــــــد ولم تقتطع ذاك الدهور الدهــــارس

وبعد هذا القسم من استرجاع الماضي والندم عليه، انتقل ابن حزم إلى الشيب الذي كان قد بدأ في غزو شعر رأسه وما فعله الزمان به…إلخ؛ ونجد هنا أن القصيدة تأخذ نهج القدماء في في مراعاتهم لجزالة الألفاظ وميلهم إلى القاموس المرتبط باللغة البدوية باللغة ، لذكر الأطلال والدهاريس،الظباء والعيس، والسباسب…إلخ. ومع ذلك فإن ابن حزم لم يكن كثير التكلف لتلك اللغة البدوية، بل إنها جاءت مناسبة للمقام.

فقد أخرج ابن حزم من دياره بمدينة قرطبة إبان الفتنة تاتي حدثت بها وتجول في المدن الأندلسية، وعندما عاد إليها ألقاها أطلالًا دارسة لما حل بها من خراب، وما تعرضت له من سرقة ونهب، فهذا المقام لا يناسبه سوى لغة البكاء على الأطلال والحنين إلى الماضي. ومن أجمل قصائده (وتروى لغيره) التي نظمها تعبيرًا عن اشتياقه لأهله وولده، هي تلك القصيدة التي نظمها وهو في محبسه، معارضً بها “فراقية” ابن زريق البغدادي التي كانت تعجبه، فهي قصيدة رائعة في معناها يسكنها

الحزن واللوعة، وحنينه إلى حريته ولهفته للقاء أهله وأولاده، بل قد تفوق قصيدة ابن زريق البغدادي في صدق لهجتها، وانبعاث مشاعر الحزن والأسى من لغتها، فيقول ابن حزم واصفًا غربته ومعاناته:

 

مُسهد القلب في خديه أدمعـــــــه

​​ قد طالما شرقت بالوجد أضلعـــــه

داني الهموم، بعيد الدار نازحهــا​​ 

رجع الأنين سكيب الدمع مفزعـه

يأوي إلى زفرات لو يباشرهــــــــا

قاسي الحديد فواقا ذاب أجمعــه

 

كما ورد أيضًا في القصيدة شكواه الموجعة مما أصبح عليه من ضعف ونحول في الجسم، قم حنينه العارم لأهله وأولاده، فينادي ذلك الراحل بعيدًا نحو دياره التي يسكنها رمقه وقلبه قائلًا:

يا راحلا عند حي عنده رمقـــــي

​​ اقرأ السلام على من لم أودعـــه

وأطول شوقاه ما جد البعاد بهــــم

​​ إليهم مذ سعوا للبين أفظعــــــه

لئن تباعد جثماني فلم أرهــــــــم

​​ فعندهم وأبيك القلب أجمعــــــه

فذلك النداء يحمل ما بقلب ابن حزم من لهفة واشتياق إلى أحبابه الغائبين، كما أنه قد وظف جميع الأساليب الإنشائية التي تظهر انفعالاته ومدى شوقه ولهفته لحريته وأهله وقومه، كأسلوب الندبة: و ا…. يا…. وأسلوب النداء والاستفهام وغيرهما، وقد خرجت عن معناها الظاهر إلى سياق التفجع والندبة،بالإضافة ​​ إلى المقابلات والمفارقات في تصوير ما به من لوعة.

لم تكن شكوى ابن حزم من تحول زمانه فقط، بل شكى من تحول أخلاق الناس من حوله ومضايقتهم وكيدهم له، فكتب في ذلك عدة قصائد من ضمنها هذه القصيدة التي في ظاهرها تبدو بغرض الافتخار بينما باطنها هو الأسى وألم الحسرة على ما واجهه علمه من جحود وإنكار فيقول:

 

أنا الشمس في جو العلوم منـيــــرة ولكن عيبي أن مطلعي الغــــــــرب

ولو أنني من جانب الشرق طالـــع لجد على ما ضاع من ذكري النهــب

ولي نحو أكناف العراق صبابــــــة ولا غرو أن يستوحش الكلف الصـب

فإن ينزل الرحمن رحلي بينهــــم فحينئذ يبدو التأسف والكـــــــــرب

 

تظهر في هذه الأبيات بوضوح حسرة ابن حزم على ضياع علمه بين أُناس لا يعطونه قدره، كما أن القصيدة بها شوق رحيله إلى العراق كحل بديل لما هو به، حيث كانت أزمته مع أهل زمانه هو أنه واحدًا منهم يعيش وسطهم، بينما لو كان من جهة الشرق لكانوا رووا عنه علومه وآدابه،​​ لقد اُمتحن ابن حزم بالناس، وترقبوا أخباره في فضول غريب وغير مبرر، قاصدين الإيقاع به عند الحكام؛

ومما قاله في هذا الصدد قصيدة، نقتصر فيها على هذه الأبيات التي اتسمت لهجتها ولغتها بمشاعر الغضب والاستنكار:

إني لأعجب من شأني وشأنهـــم واحسرتا إنني بالناس ممتحــــن

ما إن قصدت لأمر قط أطلبـــــــه إلا وطارت به الأضعان والسفــن

أما لهم شغل عني فيشغلهـــــــم أو كلهم بي مشغول ومرتهــــــن

دعوا الفضول وهبوا للبيان لكـــي يدري مقيم على الحسنى ومفتتن

وحسبي الله في بدء وفي عقــــــب بذكره تدفع الغماء والإحـــــــــن

يظهر في تلك الأبيات أنه كان من الرذائل التي تثير حفيظة ابن حزم هي الحسد والفضول والنميمة وتصيد الأخطاء للآخرين، بل وكانت تثير بداخله مشاعر الغضب والحنق، وظهر ذلك في الأساليب الإنشائية التي استخدمها من نداء وأمر وتعجب وغيرهم، فقد أشار ابن حزم إلى هذه الظاهرة البغيضة في عدد من مؤلفاته وكتبه وأورد فيها الحكم والأمثال، ومن أجمل ما استشهد به قول سيدنا عيسى -عليه السلام- :” لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده.” ، وشكا في كتبه المتفرق من كثرة الحساد والحاقدين، وأظهر حسرته على ضياع كثير من القيم كالمحبة والولاء واللين.

إلى هنا تنتهي رحلتنا مع بلاغة وإبداع ابن حزم وتألقه في سماء الأدب الأندلسي في كافة نواحيه، ونلتقي بكم مع جهبذ أندلسي آخر في مقالاتنا القادمة.

 

بقلم\ هدير أشرف