الأندلس المصغّر: ابن حزم الأندلسي

 

طوال ثمانية قرون ازدهر فيها الإسلام في بلاد الأندلس، فلقد أنجبت الأندلس طوال هذه المدة عددًا كبيرًا من العباقرة والمتميزين في مختلف الميادين من شريعة، وعلوم، وآداب، وفنون، وذلك بجانب السياسة والعسكرية، وأيضًا عدد كبير من الدُعاة الذين امتازوا بنبوغهم وبراعتهم، وفي آخر سنوات ازدهارها واضطرابها، وُلد الرجل الذي جمع جميع المتناقضات فأصبح هو أساس المذهب الظاهري، وهو الفقيه المتعمق في جميع المذاهب الفقهية، والفيلسوف المتأمل، بل والسياسي المُحنك، فقد كان والده وزيرًا ذا شأن كبير في ذلك الوقت، وُلد أحد الفطاحل في تاريخ مغرب الأندلس وهو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عام 384 هجريًا.

وُصف ابن حزم الأندلسي بأنه منجنيق العرب، كما قال عنه ابن القيم ضاربًا المثل بلسانه:” وسيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان”، فكان لابن حزم لسانٌ يُبسط أثناء مناظراته على المالكية في بلاد الأندلس، مما أدى إلى كثرة أعدائه وكارهيه، فلقد هوجم من فقهاء عصره الذين انتفعوا مما هم عليه من مناصب، فأحرقوا كتبه، وأجبروه على أن يغادر بلاده، مما تسبب في ألم كبير في نفسه.

ابن حزم الشاعر الأديب:

كان ابن حزم مشهورًا بأنه فقيه متميز وبأنه مجادل قوي، إضافة لكونه مفكر أصيل، ولكن ما سنتناوله هنا هو ابن حزم الشاعر والأديب والناقد، الذي يعد واحدًا من القليلين الذين اجتمعت فيهم قوة الفكر ورقة الأدب وسنبدأ بمفهوم الشعر لديه، فما هو مفهوم الشعر لدى ابن حزم؟

تميز ابن حزم عن باقي الشعراء والنقاد في مفهومه عن وظيفة الشعر، واختلف عنهم في عدد من القضايا منها:​​ 

  • انطلق فهمه للشعر أو مفهومه عنه من مبدأ ديني وأخلاقي، مما أدى إلى قبوله بعض الأغراض الشعرية كأشعار الزهد والحكمة وأشعار الرثاء والوعظ…إلخ.

بينما رفض بعض الأغراض الأخرى كأشعار اللهو والخمريات، وتعفف تماما عن ذكر الفواحش في شعر الغزل، ورفض الهجاء بشكل قاطع لأنه يتناول أعراض الناس، وبالمثل رفض شعر الصعلكة والحروب لما يسببه من إثارة للفتن والشره إلى سفك الدماء.

  • خالف ابن حزم النقاد في ماهية كلا من الاستعارة والمجاز؛ فقد كان ينكر مغالاة الشعراء وكثرة مبالغاتهم فهو يرى أن لكل شيء حد، كما أنه كان يكره الكذب حتى في الشعر ويرى أنه إذا خرجت الأمور عن الحد المعقول فلا يمكن تصديقها بل وتكون بلا أثر طيب في النفوس.

  • وبناءًا على ما سبق فقد دعا إلى استخدام المجازات والاستعارات والتشبيهات وكل المظاهر البلاغية، ولكن باقتصاد فالتوسط والاعتدال في كل شيء هو الأفضل دائمًا.

  •  

وبناءًا عليه سنجد نتيجة كل ذلك في جميع أشعاره التي سنتناولها هنا، فكل ما نظمه ابن حزم من أشعار كانت ناتجة عن تجارب حقيقية، ولغته مستقاة من واقع تجربته وليس من ذاكرته، مما أضفى لمسات الصدق والحيوية والعفوية على أشعاره.ويستقي لغته من واقع التجربة وليس من الذاكرة، كما هي عادة معظم شعراء العرب، ومن ثم اتسمت تجربته بالصدق في شعره ولغته بالحيوية والعفوية.

شعر ابن حزم الأندلسي:

 

لم يكن ابن حزم كغيره من شعراء الغزل الذين يستوحون غزلهم من الشعر الذي يحفظونه، ويصفون النساء بأوصاف لا وجود لها بل لا وجود لتلك النساء من الأساس وإنما يفعلون ذلك مجاراة للعادة والتقليد، بل اتسم شعر ابن حزم في الغزل بعذريته، حيث لم يكن به متسع للعبث بصورة النساء أو بقيمة التعفف، لذلك نجده يفرق في أشعاره بين الحب النابع من القلب، وبين مجرد استحسان الجسد، وسنجد في هذه الأبيات ردًا على من زعموا أنه يحب اثنين في نفس الوقت:

كَذبَ المُدَّعِي هَوَى اثْنَيْنِ حَتْمًا  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ مِثْلَمَا فِي الأُصُولِ أُكْذِب مَانِي

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ لَيْسَ فِي القَلْبِ مَوْضِعٌ لَحَبِيبَيْـ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ ـنِ وَلَا أَحْدَثُ الأُمُورِ بِثَانِي

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فَكَمَا العَقْلُ وَاحِدٌ لَيْسَ يَدْرِي  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ خَالِقًا غَيْرَ وَاحِدٍ رَحْمَنِ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فَكَذَا القَلْبُ وَاحِدٌ لَيْسَ يَهْوَى  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ غَيْرَ فَرْدٍ مُبَاعِدٍ أَوْ مُدَانِ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ هو في شِرْعَة المَوَدَّةِ ذُو شَكٍّ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ بَعِيدٍ مِنْ صِحَّةِ الإِيمَانِ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَكَذَا الدِّيْنُ وَاحِدٌ مُسْتَقِيمٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَكَفُورٌ مِنْ عندهِ دِينَانِ

​​ وفي تلك الأبيات نجد أن ابن حزم كان يعتبر التعدد في الحب أو الهوى نوعًا من أنواع الكفر والعدول عن الولاء، كما أنه يستنكر أن الرجل يمكنه حب اثنين بنفس ذات الوقت ويرى أن ذلك سببه الشهوات الجسدية، والتي يتصف بها الرجل كثير الملل، غير المستقر على عاطفة واحدة وهذا بالطبع لا يعد حبًا حقيقيًا، كما نجد في آخر بيت أنه كما وضحنا اعتبر حب اثنين في نفس الوقت نوع من الكفر.

 

 

لم يخل ابن حزم بسبب أشعاره العاطفية من اللوم من أهل زمانه، فهو ذاك الفقيه ذو الدين، بل واستنكروا عليه تأليفه لـ​​ طوق الحمامة في الحب،​​ فكان رده عليهم مدعوما بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأيضًا ببعض من سير الخلفاء الراشدين، معللا ذلك بأن القلوب بيد الله -عزوجل- وأن الإنسان يلزمه فقط أن يعرف الصواب والخطأ في تلك الأمور، فكان ابن حزم يرع قمع وإخفاء العواطف وفي بعض الأحيان إنكارها نوعًا من الرياء والكذب، ويرى أن من لاموه ما هم سوى رجالٌ لا يعرفون معنى الحب أو المحبة ولم تطأ قلوبهم قط أي نوع من المشاعر، فقال:​​ 

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​  ​​ ​​​​ يَلُومُ رِجَالٌ فِيك لَمْ يَعْرِفُوا الهَوَى  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَسِيَّانِ عِنْدِي فِيك لَاحٍ وَسَاكِتُ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ يَقُولُونَ جَانَبْتَ التَّصَاوُنَ جُمْلَةً  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَنْت عَلَيْهِمْ بِالشَّرِيعَةِ قَانِت

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الرِّيَاءُ بِعَيْنِه  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ صُرَاحًا وَزِيٌّ لِلْمرائِينَ مَاقِت

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ مَتَى جَاءَ تَحْرِيمُ الهَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَهَلْ مَنْعُهُ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ ثَابِت

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ 

أما عن معنى تلك الأبيات فهو يبدأ بأن الرجال الذي يلومونه لم يعرفوا من الأصل معنى الهوى أو الحب، فهم يزعمون أنك لم نأيت بنفسك عن كل هو صحيح وجيد بكلامك عن العاطفة، ولكن حجتك التي تخرسهم هي أنك تتكلم من قلب رجل مؤمن ومطيع لله فتتكلم من منظور الشريعة لهذا الأمر، فكان ردي عليهم أن ما تقولونه هو رياء بَين وتصنع صريح لا يليق سوى بالمنافقين، ثم راح يتسائل متى حُرِم الهوى في عصر سيد الأنبياء محمد​​ ﷺ، أو أين هو موضع تحريمه في كلام الله -تعالى- ؟

 

ومن هذا الفهم القوي للمحبة كعاطفة، لم يجد ابن زيدون أي حرج في أن يعبر عن صدق عواطفه ومشاعره تجاه تلك المرأة التي أحبها، فكتب فيها شعرًا من أجمل وأروع ما كتبه:

وددت بأن القلب شق بمديــــــــة وأدخلت فيه ثم أطبق في صــدري

فأصبحت فيه لا تحلين غـيــــــره إلى ملتقى يوم القيامة والحشــــــر

تعيشين فيه ما حييت فإن أمــــت سكنت شغاف القلب في ظُلَم القبر

وعندما وصله خبر نعي محبوبته هذه، هرع إلى المقابر وقال متحسرًا:

وددت بأن ظهر الأرض بطـــــــن وأن البطن صار منها ظهـــــــرا

وأني مت قبل ورود خطـــــــــب أتى فأثار في الأكباد جمـــــــرا

وأن دمي لمن قد بان غســــــــــل وأن ضلوع صدري كن قبـــــــرا

 

 

 

قبل أن نتعمق في معنى تلك الأبيات وجب علينا أن نلاحظ مدى عاطفته الجياشة، ومشاعره الفياضة، التي نادرًا ما نجد شاعرًا عبر عنها وأوصلها بهذا الإحساس؛ ​​ أما عن معناها فنجد أنه فيما كتبه عن مشاعره لمحبوبته يوضح أنه من شدة حبه لها واشتياقه الدئم لها يود لو بالإمكان أن يُشق قلبه وتوضع فيها ثم يغلق عليا حتى لا تحل بقلب أحد آخر غيره إلى يوم القيامة، حتى إذا مات لا تزال بقلبه تؤنسه في ظلمات القبر، ثم يظهر الأسى وشدة الحزن عليه في الأبيات التي قالها حزنًا عليها، فمن شدة حزنه وهول الخبرعلى نفسه تمنى لو أن الأرض تنقلب رأسًا على عقب فمات هو وعاشت هي، تمنى لو أنه كان ميتًا قبل أن يصله خبر وفاتها التي أشعل النيران في وجدانه.

إلى هنا تنتهي جولتنا مع ابن حزم، ولكن بلاغة وروعة شعر ابن حزم لا تنتهي…

 

 

 

بقلم\ هدير أشرف​​