أبو الحسن الششتري

 

ذاك هو "أبو الحسن" علي بن عبد الله النميري الششتري اللوشي، فالنميري نسبة إلى نمير، بطن من بطون هوازن، حيث يعود أصله إلى بلاد الأندلس، وأما الششتري فهو نسبة لششتر التي رأى النور فيها، وهي قرية صغيرة بالأندلس، في حين أن اللوشي نسبة إلى لوشة، القرية التي قضى فيها ردحًا من طفولته.

نشأ أبو الحسن الششتري -وسُمَّي نسبة إلى ششتر إحدى قرى الأندلس الصغيرة- على حياةٍ مترفة في أسرةٍ ميسورة، ودرس الفقه والقرآن والتصوُّف في بداية حياته، إلا أنه اعتنق الصوفية بعد التقائه بالمتصوِّف الأندلسي عبد الحقِّ ابن سبعين، فصار تلميذًا له وتأثر به تأثُّرًا كبيرًا، وتجوَّل معه عبر البلدان، حتى انفصل عنه.​​ 

استقر الششتري في القاهرة، وأصبح لديه مريدون ومحبُّون يتجمَّعون حوله في أروقة الأزهر الشريف ليستمعوا لدروسه، إلا أن بعض مشايخ الفقه لم تعجبهم طريقته، وتردَّدت حوله الانتقادات، فردَّ عليها بأبياته الجميلة:​​ 

شويخ من أرض مكناس .. في وسط الأسواق يغنِّي​​ 

إيش عليَّ من الناس .. وإيش على الناس منِّي

 

​​ وهجر الشيخ الششتري القاهرة بعد ذلك إلى الصحاري، ليعيش حياةً زاهدة متقشفة؛ فكتب عنه الأديب ابن ليون التجيبي في سيرةٍ تحكي قصة حياة الششتري أنه: "كان من الأمراء وأولاد الأمراء، فصار من الفقراء وأولاد الفقراء". وقد خلف الششتري تراثًا كبيرًا في الصوفية والشعر منها كتاب​​ المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية، والرسالة البغدادية، إلى جانب ديوانه الشعري الذي تجلَّى بين سطوره حبُّ الذات الإلهية، وومما قال فيه:

​​ يا حاضِرًا في فُؤادي .. بِالفكرِ فِيكمْ أطيبُ​​ 

إِنْ لمْ يزُرْ شخصُ عيني .. فالقلبُ عِندي ينُوبُ​​ 

 

حياة أبي الحسن الششتري ومؤلفاته:

نشأ أبو الحسن في أسرة ثرية ولديها من المال والجاه الكثير، وبدأ رحلة تعليمه بحفظه للقرآن الكريم، وتعلم تفسيره، إضافة إلى أنه قام بدراسة الفقه المالكي حتى لُقب بـ​​ "عروس الفقهاء"​​ ، وفي مرحلة شبابه تعمق في التصوف ولقيا أهله، فتعلم منهم بعض الرياضات، ومنهج السياحة في مختلف البلدان فطاف وجال في بلاد الأندلس، وبعد رحلاته في بلاد الأندلس أصبحت وجهته نحو العدوة التي تقابل الأندلس، فتوجه نحو المغرب والتقى هناك بأبي مدين الغوث، وربما لم يلتقه ولكن أخذ طريقته، ثمّ توجه إلى بجاية وهنالك التقى ابن سبعين الملقب بقطب الدين، ولازمه مدة طويلة، ثمّ تركه وغادر إلى الإسكندرية في مصر والتقى هناك بأبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي؛ ثم ذهب للحج وكثرت رحلاته للحج، ويقال أنه كان كلما حج مر بالعراق وبلاد الشام حيثما كان يلتقي ببعض من تلاميذ ابن عربي الأندلسي، والسهروردي البغدادي المقتول.

 

شعر أبي الحسن الششتري:

امتاز شعره بالبلاغة، ودقة الألفاظ ووضوح المعاني، والروعة في التصوير ومما كتبه:

 

  • قصيدة​​ أرى الأتباع تلحق سابقوهم​​ وهي من بحر الوافر:

 

أرى الأتباع تلحق سابقوهم * * * بمن تبعوه في حكم وحالٍ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وهذي لا خفاء بهم لديهم * * * تبينه مقامات الرجال

ولما أن رأيت وجود عيني * * * بعين القلب في ظلم الليالي

سجدت لربنا معنى وحسّاً * * * سجودَ القلب أو عين الظلال

 

وفي هذه القصيدة يتضرع أبو الحسن ويتذلل لربه، فقد رأى أن الجميع يؤول للنهاية ذاتها مهما طال عمره، وهذه شيء بديهي لا ينكره أحد، كما أنا يستلذ بسجوده لربه بكل ما في قلبه من خشوع وخضوع لرب العالمين.

 

  • قصيدة​​ سألوا الرياح​​ ويقول فيها:

يا سيدي يحقْ لي * * * ​​ نبكي على بعد الحبايبْ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ يا سيدي هُم سادتي * * * وأنا إِليهم مفتقرْ

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ يا سيدي من وحشتي * * * بَدَّلتْ نومي بالسهر

يا سيدي من فرقتي * * * نبكي على بعد الحبايب

 

في هذه الأبيات نرى نبرة مشتاق يشكو من طول الفراق، فمن شدة شوقه يبكي على بعد أحبابه عنه، فيشبههم بالسادة والأسياد وهو الضعيف المفتقر لهم ولحُنوهم، بل ذلك الشوق جعله لا ينام الليل ويظل متيقظًا غارقًا في بكاه من بعد أحبابه عنه.​​ 

 

 

 

  • قصيدة​​ كم ذا تموُّه بالشعبين والعلم​​ وهي من بحر البسيط:

 

كم ذا تموُّه بالشعبين والعلم * * * الأمرُ أوضحُ من نار على علم

وكم تعبر عن سلْع وكاظمهِ * * * وعن زرود وجيران بذي سلم

ظللْتَ تسألُ عَن نجْدٍ وأنتَ بها * * * وعَنْ تُهامَه هذا فِعْلُ مُتَّهم

في الحَيّ حيّ سِوى لَيْلي فتَسألهْ * * * عنها سؤالك وهم جر للعَدم

حَدِّثْ بِما شئْتَ عَنها فَهي راضيةٌ * * * بالحالَتَين معاً والصمتِ والكلم

تندرج هذه القصيدة تحت غرض الوطنية، ​​ وفيها يمجد من بلاده ومن نجد فمن ذا الذي يسأل عن نجد وهي أشهر من النار على العلم كما يقال، كما أنه لا يكترث بأي كلام سلبي يقال عنها فهي ما زالت صاحبة المجد مهما قيل عنها.

 

  • قصيدة​​ ​​ أهديت لك طريقه:

 

أَهْدَيْتُ لَكْ طَريقَه * * * في أصْلِهَا حقِيقَه

فأبْصِر بِهَا رَقِيقَه * * * في طَيّشها اسْمِعْنِ شَيْ

في طَيِّها سِرُّ يَسُود * * * في ذَوْقِها فَهْمُ الوجودْ

في خَمْرِها بانَتْ شُهُود * * * ما فِي الْوُجُود غَيْرَك شَيْ

 

 

وهي قصيدة رومانسية ممزوجة بالمدح في المحبوب، تظهر من خلالها بلاغة ورقة في المعاني، واستخدام الألفاظ بشكل منظم يحث في القاريء مشاعر رقيقة وذات مغزى لطيف.

 

 

 

 

يعد الششتري هو أول من استعمل​​ الزجل​​ كشكل تعبيري في التصوف، وقد اشتهر بقصيدته الرائعة:

​​ شويخ من أرض مكناس​​ التي تغنّى بها كثير من المشارقة في القديم كما في العصر الحديث.

ومن نماذج أشعار الششتري في الحب الإلهي قوله:

 

يا ساقي القوم من شذاه * * * الكـل لمـا ســقيـت تــاهــوا

ما شرب الكأس واحتساه * * * إلا محـــب قــد اصطــفــاه

ما قلت للقلب أين حبي؟ * * * إلا وقـال الضميـر: هـا هــــو

 

استبدت بشعر الششتري فكرة الحنين إلى الأصول الأولى (التراب/الأرض) والعجيب في الأمر أنه عندما عاد إلى مصر وأثناء مروره بمكان قريب من دمياط يسمى​​ الطينة،​​ سأل عن اسم ذلك المكان فقيل له​​ الطينة، آنذاك قال مقولته الشهيرة: "حنت الطينة للطينة" فكان أن أسلم الروح لبارئها بذلك المكان فتحققت نبؤته حتى ينعم بالاتصال الذي طالما رجاه.

رحم الله أبا الحسن الششتري وأثابه.