أبو البقاء الرندي

 

من هو أبو البقاء الرُّندي؟

 

هو الكاتب والناقد والأديب وأحد أبرز وأهم شعراء بلاد الأندلس في القرن السابع هجريًا، وهو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن علي بن شريف النّفزي، الرُّندي، وكنيته أبا الطيب، وأبا البقاء، ولكن اشتهر أكثر بأبي البقاء، كان لديه مواهب متعددة واهتمامات معرفية كثيرة والتي شملت أغلب الجوانب الثقافية الأدبية والدينية في وقته، كان أبو البقاء أديبًا وشاعرًا وفقيهًا ومحدثًا، فأصبح له مكانته المرموقة في عصره، كما كانت له العديد من الصلات التي تربطه بالأمراء والحكام والوزراء، ونضيف على كل ذلك انه عُرق بتدين وورعه وحسن أخلاقه.

 

حياة أبي البقاء الرندي الأدبية والعلمية:

 

بدأ أبو البقاء مسرته التعليمية منذ نعومة أظافره على يد أبيه، والتحق بعدها بمجالس كبار الشيوخ وحلقات العلم التي كانت تنعقد في مسقط رأسه رُندة، فنتيجة لذلك أصبح دارسًا للقرآن الكريم وحافظًا له، ودرس رواية الشعر والترسل، وقوانين اللغة العربية والخط، وفي مرحلة شبابه انتقل ككثير من الطلاب إلى الأقاليم التي تجاور بلدته والتي اشتهرت بثراء مجالسها العلمية، والتي كان منها: مالقة، وإشبيلية، وشريش، وكانت تلك المجالس هي ملتقاه بكبار الشيوخ والعلماء.

وفي مرحلة بلوغه انتقل أبو البقاء إلى غرناطة ليصبح شاعرًا للبلاط النصريّ، إضافة إلى أنه كان كثيرًا ما يتردد على مدينة سبتة، وذهب إلى مراكش مرتين كان فيهما أحد أفراد الوفد الرسمي المتوجه إلى البلاط المريني طلبًا للنصرة واستنجادًا بهم ومن أجل دعوتهم أيضًا إلى الجهاد في الأندلس.

 

 

الشاعر أبو البقاء الرندي:

 

اشتهر أبو البقاء الرندي كشاعرًا مداحًا في بلاط قصور ملوك بني الأحمر، فلقد كانت تجمعه صلة قوية بأمراء الدولة الذين يحبون الشعر، كما أنه امتاز بغزارة إنتاجه، وأنه سهل العطاء وحاضر البديهة، وكان من أبرز الأغراض الشعرية التي استخدمها في أشعاره: المديح، والغزل، والرثاء -خاصةً رثاء المدن والممالك-، والحكمة، والهجاء، والتوحيد، والشوق إلى أولاده.

وقد اتسمت لغته في الشعر بالبساطة والسهولة والوضوح، نضيف على ذلك أنه عاصر عددًا من الأحداث والوقائع التاريخية، بجانب تجاربه الحياتية المريرة كالغربة والوحشة وفقدان الأهل والأحبة، وكان لكل ذلك أثر كبير ودور عظيم فيما رسمه أبو البقاء من صدق العاطفة في أشعاره، فلقد أظهر تأثره بكل هذه العوامل بصورة واضحة ومتمكنة في قصائده الشعرية، وفيما كتبه من نثر، كما أنه تأثر بأقوال السابقين من حكم وأمثال في كتاباته؛ نضيف لذلك أن تجربته الشعرية كانت تواكب الحركة الشعرية في ذلك القرن، التي شُهد لها بغزارتها في الإنتاج ونشاطها، وكثرة شعرائها، مما جعل شعر الرندي يتميز بالنفس القوي، كما اٌعتبر الرندي واحدًا من أبلغ وأروع شعراء المدح.

 

 

 

 

والآن لننتقل في جولة مع أهم ما كتبه أبو البقاء الرندي:
قصيدة​​ 
لكل شيء اذا ما تم نقصان​​ وهي واحدة من أشهر قصائده في الشعر العربي عمومًا، فلقد نظم هذه القصيدة بعدما تنازل ملوك بني الأحمر عن عدد من مدن الأندلس للإسبانيين، في محاولة منهم للحفاظ على حكمهم، فاستهل قصيدته بالدعوة إلى أخذ العبرة من موت الملوك وزوال الدول، ثم انتقل إلى وصف المدن الأندلسية وتصوير سقوطها في أيدي الأعداء، وما أصاب أهلها من مصائب كثيرة ونكبات متتالية، وانتقل بعدها داعيًا المسلمين إلى الجهاد، واستنصرعددًا من القبائل حتى يساعدوهم في حروبهم ضد العدو وحتى يتمكنوا من إنقاذ الأندلس قبل سقوطها، فيقول:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُ

وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ

أَينَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن يَمَنٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ

وَأَينَ ما شادَهُ شَدّادُ في إِرَمٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ

وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَينَ عادٌ وَشدّادٌ وَقَحطانُ

أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا

وَصارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن مَلكٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنانُ

دارَ الزَمانُ عَلى دارا وَقاتِلِهِ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَمَّ كِسرى فَما آواهُ إِيوانُ

كَأَنَّما الصَعبُ لَم يَسهُل لَهُ سببٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ يَوماً وَلا مَلَكَ الدُنيا سُلَيمانُ

فَجائِعُ الدُهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَلِلزَمانِ مَسرّاتٌ وَأَحزانُ

وَلِلحَوادِثِ سلوانٌ يُهوّنُها  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَما لِما حَلَّ بِالإِسلامِ سلوانُ

دهى الجَزيرَة أَمرٌ لا عَزاءَ لَهُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ هَوَى لَهُ أُحُدٌ وَاِنهَدَّ ثَهلانُ

أَصابَها العينُ في الإِسلامِ فاِرتزَأت  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ حَتّى خَلَت مِنهُ أَقطارٌ وَبُلدانُ

فاِسأل بَلَنسِيةً ما شَأنُ مرسِيَةٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَينَ شاطِبة أَم أَينَ جيّانُ

وَأَين قُرطُبة دارُ العُلُومِ فَكَم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ مِن عالِمٍ قَد سَما فِيها لَهُ شانُ

وَأَينَ حمص وَما تَحويِهِ مِن نُزَهٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَنَهرُها العَذبُ فَيّاضٌ وَمَلآنُ

قَوَاعد كُنَّ أَركانَ البِلادِ فَما  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ عَسى البَقاءُ إِذا لَم تَبقَ أَركانُ

تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كَما بَكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ

عَلى دِيارٍ منَ الإِسلامِ خالِيَةٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ قَد أَقفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ

حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فيهِنَّ إِلّا نَواقِيسٌ وصلبانُ

حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ حَتّى المَنابِرُ تَبكي وَهيَ عيدَانُ

يا غافِلاً وَلَهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ إِن كُنتَ في سنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ

وَماشِياً مَرِحاً يُلهِيهِ مَوطِنُهُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أَبَعدَ حِمص تَغُرُّ المَرءَ أَوطانُ

تِلكَ المُصِيبَةُ أَنسَت ما تَقَدَّمَها  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَما لَها مِن طِوَالِ المَهرِ نِسيانُ

يا أَيُّها المَلكُ البَيضاءُ رايَتُهُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أَدرِك بِسَيفِكَ أَهلَ الكُفرِ لا كانوا

يا راكِبينَ عِتاق الخَيلِ ضامِرَةً  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كَأَنَّها في مَجالِ السَبقِ عقبانُ

وَحامِلينَ سُيُوفَ الهِندِ مُرهَفَةً  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كَأَنَّها في ظَلامِ النَقعِ نيرَانُ

وَراتِعينَ وَراءَ البَحرِ في دعةٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ لَهُم بِأَوطانِهِم عِزٌّ وَسلطانُ

أَعِندكُم نَبَأ مِن أَهلِ أَندَلُسٍ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ فَقَد سَرى بِحَدِيثِ القَومِ رُكبَانُ

كَم يَستَغيثُ بِنا المُستَضعَفُونَ وَهُم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ قَتلى وَأَسرى فَما يَهتَزَّ إِنسانُ

ماذا التَقاطعُ في الإِسلامِ بَينَكُمُ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَأَنتُم يا عِبَادَ اللَهِ إِخوَانُ

أَلا نُفوسٌ أَبيّاتٌ لَها هِمَمٌ  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أَما عَلى الخَيرِ أَنصارٌ وَأَعوانُ

يا مَن لِذلَّةِ قَوم بَعدَ عِزّتهِم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أَحالَ حالَهُم كفرٌ وَطُغيانُ

بِالأَمسِ كانُوا مُلُوكاً فِي مَنازِلهِم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وَاليَومَ هُم في بِلادِ الكُفرِ عُبدانُ

فَلَو تَراهُم حَيارى لا دَلِيلَ لَهُم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ عَلَيهِم من ثيابِ الذُلِّ أَلوانُ

وَلَو رَأَيت بُكاهُم عِندَ بَيعهمُ  ​​ ​​ ​​​​ لَهالَكَ الأَمرُ وَاِستَهوَتكَ أَحزانُ

يا رُبَّ أمٍّ وَطِفلٍ حيلَ بينهُما  ​​ ​​​​ كَما تُفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبدانُ

وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت  ​​ ​​​​ كَأَنَّما هيَ ياقُوتٌ وَمُرجانُ

يَقُودُها العِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً  ​​ ​​​​ وَالعَينُ باكِيَةٌ وَالقَلبُ حَيرانُ

لِمثلِ هَذا يَبكِي القَلبُ مِن كَمَدٍ  ​​ ​​​​ إِن كانَ في القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمانُ

 

 

​​ امتازت هذه القصيدة بصدق عاطفتها الجياشة، وسيطر عليها التأثر والانفعال وجمال الحماسة الدينية والوطنية، كما أن من يقرأها يلاحظ أن لغة الشاعر بسيطة وعبرة وتوصل الغرض والمعنى بكل سلاسة، فلقد استطاع بكل سلاسة أن يصور واقع الأندلس بكل دقة وفي نفس الوقت بأبيات بعيدة عن التكلف والصعوبة، ودون أي إسراف في التصوير، وبذلك استطاع أبو البقاء تحريك العواطف بقصيدته ولفت الانتباه إلى الأندلس وما حل بها، فقد وصفها على أنها مشكلة تخص الأمة الإسلامية كلها، وبناءًا عليه ركز على أهمية الجهاد من أجل أن يستردوا ما سُلب منها من مدن، باعتباره فرض عين على كل مسلم غير قابل لسقوط التكليف عنه تحت أي حال من الأحوال.

 

 

​​ ومن قصائده في مدح أبطال المسلمين وذلّ الكفار قصيدة:

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ وكتيبة بالدارعين كثيفة  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ جرت ذيول الجحفل الجرار

​​ روض المنايا قضبها السمر التي  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ من فوقها الرايات كالأزهار

 ​​​​ فيها الكماة بنو الكماة كأنهم  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أسد الشرى بين القنا الخطار

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ متهللين لدى الهياج كأنما  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ خلقت وجوههم من الأقمار

 

وأبدع أبو البقاء في شعر وصف الطبيعة فنجده قال واصفًا الريحان:

وأخْضر فستقي اللونِ غضٌّ… يروقُ بحسنِ منظره العُيونا

أغارُ على الترنجِ وقد حكاه …. وَزادَ على اسمهِ ألفاً ونونا.

 

وقال​​ في وصف البحار والأنهار:

البحر أعظم ممّا أنت تَحسِبه …. مَن لم يرَ البحر يوماً ما رأى عجبا

طام له حَبَبٌ طاف على زورقٍ …مثل السماءِ إذا ما ملئت شُهُبا

 

إلى هنا ينتهي مقالنا عن أبي البقاء الرندي، النابغة و الجهبذ الأندلسي بعد أن استعرضنا لمحات عن حياته ومسيرته العلمية والأدبية ثم انتقلنا إلى أشعاره وبلاغتها الرائعة.

 

بقلم\ هدير أشرف