أبو إسحاق الألبيري

 

نتابع معكم سلسلتنا في أهم شعراء الأندلس، واليوم مقالنا عن شاعرًا ليس فقط من أهم شعراء الأندلس، بل من أهم الشعراء على مر العصور، والذي لم يكن فقط شاعرًا بل كان أيضًا فقيهًا ومحدثًا وأديبًا؛ موعدنا اليوم مع أبو إسحاق الألبيري…

هو إبراهيم بن مسعود بن سعد التجيبي، لُقب بأبي إسحاق، أما عن الألبيري فقد لقب به نسبة إلى مدينة إلبيرة، كان من شعراء الأندلس ، وقضى شطرًا من حياته بمدينة غرناطة، كما أنه نظم العديد من الأشعار في الحكمة والزهد، أما عن انتمائه فقد كان ينتمي للدولة المرابطية، كثُر ذكر أبي إسحاق الألبيري بسبب كثرة ما مر به من قصص وحوداث كثيرة سواء كانت مع حكام عصره، أو بسبب قصائده التي نظمها وكتبها، فقد حدثت قصة بينه وبين حاكم غرنناطة (باديس)، نُفي بسببها إلى مدينة إلبيرة، فنظم قصيدة تروي تلك القصة بتفاصيلها، كما أنه اشتهر أيضًا بسبب أنه نظم تائية نالت قسطًا واسعًا من الشهرة في عصره، كما كان لشعره تأثير كبير وأثر واضح على أهل غرناطة فقد كان يثير مشاعرهم وتفكيرهم بما ينظمه من قصائد، وسنتناول في مقالنا بعض تفاصيل حياته، وبالقصص والأشعار التي اشتُهر بها وخلدت اسمه إلى يومنا هذا.

 

الحياة العلمية لأبي إسحاق الألبيري:

​​ خرج إسحاق الإلبيري من موطن نشأته: حصن العقاب قاصدًا مدينة إلبيرة التي تجاورها، رغبة منه في تلقى المزيد من العلم والثقافة، فاستقر فيها والتقى بمن بها من كبار الشيوخ وروى عنهم وتبحر في العلوم الشرعية حتى اشتهر بالفقه والقراءات القرآنية، يمكننا القول أن لإلبيرة كبير الفضل في تكوين شخصيته، كما أنه ظهر بين أصحابه وأقرانه ونشر فيهم أوائل ما نظمه من شعر، وصار معروفًا لديهم بالشعر إضافة لمعرفتهم إياه فقيهًا متميزًا بينهم، وقد ظهر بشكل واضح تعلقه بمدينة إلبيرة وارتباطه نفسيًا بذكرياتها وآثارها وأهلها من خلال قصيدته التي قالها في رثاها، فيقول:

 

​​ وَكم بلغت فِيهَا الْأَمَانِي وقضيت … لصب لبانات بهَا ومآرب

​​ لعهدي بهَا مبيضة اللَّيْل فاعتذت … وأيامها قد سودتها النوائب

 

​​ ثم بعد ذلك انتقل الإلبيري إلى مدينة غرناطة، والتي كانت له بمثابة فرصة ذهبية أخرى حتى يلتقي بمزيد من العلماء، وحتى يتخذ مكانة بين الفقهاء، وطالت فترة إقامته في مدينة غرناطة حتى أنه عمل كاتبًا لدى القاضي:​​ أبي الحسن علي بن توبة،​​ وكان هذا القاضي قد تولى العمل لباديس بن حَبُّوس الزيري​​ صاحب غرناطة إثر توليه السلطة سنة 429هـ، وكانت علاقة الإلبيري بهذا القاضي وثيقة، وكان به مُعجبًا حتى أنه مدحه وأثنى عليه ودافع عنه، وفي أثناء إقامة الإلبيري بغرناطة كثر​​ أصحابه، وتلامذته وقرّاء شعره والمستمعون إليه، وكان بعض شعره يُنشد ويُحتفل به، كما كان شعره كله مما يتابعه الناس ويعجبون به.

 

قصائد أبي إسحاق الألبيري:

لقد ترك أبو إسحاق الألبيري ثروة أدبية هائلة من المؤلفات والقصائد، فنجد أن له ديوان شعري ومخطوطة ما زالا محفوظين في مكتبة الأسكوريال بإسبانيا، وهذا دليل قوي على عِظم وأهمية ما تركه من أشعار وما بها من قيم ومعاني سامية، وعلى الرغم من أنه قد قضى معظم حياته وحيدًا ومنعزلًا إلا أنه لم يكن أبدًا مكروهًا ممن حوله أو منبوذًا منهم، ولكن ما فرض عليه النفي والإقصاء بعيدًا عن أهله وبلده كان بسبب السياسة وقوله كلمة الحق فيها، ومع ذلك لم يبعده ذلك النفي عن كتابة وتنظيم الشعر بل وزاده حكمةً وتقوى ظهرا في عدد من أشعاره وقصائده؛ إن من يطلع على قصائد الألبيري سيجد فيها عدد لا بأس به من الحكم والمواعظ في ثنايا القصائد وبين الأبيات ومن أبرز ما نظمه الألبيري:

 

ألا قل لصنهاجة أجمعين … بدور الزمان وأسد العرين

لقد زل سيدكم زلة … تقرب بها أعين الشامتين

تخير كاتبه كافرًا … ولو شاء كان من المؤمنين

فعز اليهود به وانتخوا … وتاهوا وكانوا من الأرذلين

 

كانت هذه هي القصيدة التي تسببت في نفيه، فلقد نظمها لتحريض الشعب الغرناطي على ابن نغزالة واليهود، ويشجعهم على التخلص من ظلمهم وطغيانهم، وقد ذاع صيت هذه القصيدة في البلاد وألهبت المشارع في صدور جموع الشعب، حتى انتهى أمر يوسف ابن نغزالة بأن قتله العامة، وتخلص الشعب من فساده وتخريبه للبلاد في عام 459 هجريًا.

فنجد أنه يستهل الأبيات بمدح أبناء غرناطة وتشبيههم بالبدور في كمالها والأسود في قوتها، فكيف لهم أن يقبلوا خطأ لا يغتفر من حاكمهم الذي قام بتعيين أحد الكفار كاتبًا للدولة، والذي كان من الأوجب له أن يختار أحد المؤمنين ولكنه أبى، وبسبب ذلك ازداد اليهود فخرًا وعزًا وتوهموا علو منزلتهم ف البلاد ناسين أنهم كانوا من أحقر الناس.

 

 

كان أبو إسحاق الأبيري معروفًا بصلاحه وبكونه من أهل العلم والعمل به، وأنه كان شاعرًا بليغًا، بل وله ديوان عري باسمه يضم اثنين وثلاثين من القصائد والمقطوعات الشعرية التي نظمها، كما كان له مقطوعات أخرى ليست بالديوان مما يعني أن​​ ديوانه ذاك لا يمثل جميع ما كتبه الألبيري ونظمه في الشعر، وسبق أن أوضحنا أن من الأغراض التي طغت على شعره هي التذكير والوعظ والتخويف من الموت كما أنه كان ينصح بالزهد والتخلي عن المال والجاه.

​​ ومن ذلك القصيدة الزهدية التييقول في مطلعها:

تفت فؤادك الأيام فتا * * * وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صدق * * * ألا يا صاح أنت أريد أنتا

أراك تحب عرسا ذات خدر * * * أبتَّ طلاقها الأكياس بتا

فيستهل الشاعر قصيدته ببعض من الحكم والمواعظ مذكرًا الناس بالموت وبأن توالي الأيام عني اقتراب الأجل، وهذه الدنيا – التي شبهها بالعرس- التي تحبها قد نأى عنها العقلاء من الناس كما ينأى الرجل عن عروسه بالطلاق.

تنام الدهر ويحك في غطيط * * * بها حتى إذا مت انتبهتا

فـكـم ذا أنتَ مَخدوعٌ وحتى * * * مَـتى لا ترعوِي عَنها وحَتى

أبـا بـكـرٍ دَعَوْتُكَ لو أَجَبتا * * * إلـى مـا فيه حَظُّكَ إن عَقَلْتا

 

ثم ينتقل في الأبيات إلى الإشارة بأهمية اغتنام وقتك وأيامك في هذه الحياة بالبعد عن مسلياتها وملهياتها، وضرورة انتبهاك إلى ما تمضي وقتك فيه فوقتك محدود، كما أنه شخصية أبو بكر تلك هي شخصية غير حقيقية من اختراع أبو إسحاق حتى يتحاور.

 

ينتهي هنا الجزء الأول من مقالنا عن نابغة عصره وكل العصور أبي إسحاق الألبيري، ونتابع معكم في المقال التالي.

 

بقلم| هدير أشرف